فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [12].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أي: تصدقوا قبل مناجاته، أي: مسارته في بعض شأنكم.
{ذَلِكَ} أي: التقديم.
{خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: لأنفسكم، لما فيه من مضاعفة الأجر والثواب. والقيام بحق الإخاء، بالعود على ذوي المسكنة بالمواساة والإغناء.
{وَأَطْهَرُ} أي: لأنفسكم من رذيلة البخل والشح، ومن حب المال وإيثاره الذي قد يكون من شعار المنافقين، وكأن الأمر بالتصديق المذكور نزل ليتميز المؤمن من المنافق، فإن المؤمن تسخو نفسه بالإيمان كيفما كان، والثاني يغص به، ولو في أضرّ الأوقات. ومعظم أوامر السورة هو التصدق، حثاً للباخلين، وسوقاً للمؤمنين {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا} أي: ما تتصدقون به أمام مناجاتكم الرسول صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لمن لم يجده، إذ لم يحرجه ولم يضيّق عليه، رحمة منه.

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [13].
{أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} أي: أخِفتم، من تقديم الصدقات، الفاقة والفقر؟ توبيخ بأن مثله لا ينبغي أن يشفق منه، للزوم الخلف والإنفاق، لزوم الظل للشاخص بوعد الله الصدق.
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي: ما ندبتم إليه من تقديم الصدقة، وشقّ عليكم، {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن رخص لكم أن لا تفعلوا، رفعاً للحرج حسبما أشفقتم، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات، فإن ذلك يكسبكم ملكة الخير والفضيلة، {وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: فيجزيكم بحسبه.
تنبيه:
في الإكليل: قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} الآية منسوخة بالتي بعدها، وفيه دليل على جواز النسخ بلا بدل، ووقوعه، خلافاً لمن أبى ذلك. انتهى.
والظاهر أن مستند شهرة النسخ ما رواه ابن جرير عن مجاهد قال: قال عليّ رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ} إلخ قال: فرضت، ثم نسخت.
وعنه أيضاً قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قدم ديناراً فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة فيه.
وعن قتادة أنها منسوخة، ما كانت إلا ساعة من نهار.
وعنه أيضاً قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدِّم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
وعن الحسن وعكرمة قالا:
{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} الآية، نسختها التي بعدها {أَشْفَقْتُمْ}. الآية.
هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ، وقوفاً مع ظاهرها. وقد أسلفنا في مقدمة التفسير، ومواضع أخرى، أن النسخ في كلام السلف أعم منه باصطلاح الخلف، كما أن المراد من سبب النزول أعم مما يتبادر إليه الفهم. ومنه قول قتادة هنا: فأنزل الله الرخصة بعد ذلك، فإن مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية، لا أن نزولها كان متراخياً عن الأولى، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم. والأصل في الآي المقررة لحكم ما، هو اتصال جملها، وانتظام عقدها، إذ به يكمل سحر بلاغتها، وبديع وتمام فقهها. والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل، لهم في الآية وجوه:
أحدها: قول أبي مسلم: إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وأن قوماً من المنافقين تركوا النفاق، وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى، ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصليّ. وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت، لا جرم بقدر هذا التكليف بذلك الوقت.
قال الرازيّ: وحاصل قول أبي مسلم أن ذلك التكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخاً وهذا الكلام حسن ما به بأس. انتهى.
ثانيها: قول بعضهم: إن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب، وتأكد ذلك بقوله بعده:
{فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقوله:
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه. والجواب: أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب، بل الظاهر أنه للندب: ويدل عليه أمور:
الأول: أنه تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض.
والثاني: أنه لو كان ذلك واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به، وهو {أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا} إلى آخر الآية.
والثالث: أن قوله:
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} إلخ معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم، فلذا ندبكم إلى هذا الأمر، ولم يجعله عليكم فرضاً، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة، فأقيموا الصلاة... إلخ. فقوله: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} قد ورد هنا بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب. وقد ورد بذلك المعنى أيضاً في آية أخرى في سورة المزمل، في قوله تعالى {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20]، أي: رجع إليكم بالتخفيف، ورفع عنكم ما يشق عليكم. وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب، إذ لا ذنب هنا صدر منهم. هذا ملخص ما حققه من ذهب على امتناع النسخ. والحق لا تخفى قرته وسكون النفس إليه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [14].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} يعني المنافقين الذين كانوا يتولون اليهود ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، كما بينته آية: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11] الآية.
{مَا هُم مِّنكُمْ} أي: من أهل دينكم وملتكم، معشر المسلمين {ولاً مِّنْهُمْ} أي: من اليهود كقوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143]، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} قال ابن جرير: وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نشهد أنك رسول الله، وهم كاذبون غير مصدقين به.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: المحلوف عليه كذب بحت.

.تفسير الآيات (15- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [15- 16].
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي: وقايةً وعصمةً لأنفسهم.
{فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي: فحالوا بأيمانهم عن حكم الله في أمثالهم، وهو القتل، إراحة للمؤمنين من فسادهم. أو فصدّوا الناس في خلال أمنهم وسلامتهم عن الإيمان وثبطوهم عنه {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: مذل لهم في الآخرة.

.تفسير الآيات (17- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [17- 19].
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً} أي: من عذابه شيئاً ما، كما كانوا يفتدون بذلك في الدنيا {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي: في الدنيا كاذبين مبطلين، إشارة إلى مرونهم على النفاق، ورسوخهم فيه، حتى لدى من لا تخفى عليه خافية.
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي: من النفع أو من الحق {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي: فيما يحلفون عليه في الدارين.
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} أي: استولى عليهم حتى صار الكذب والفساد ملكة لهم {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أي: بتسويل اللذات الحسية، والشهوات البدنية لهم، وتزيين الدنيا وزبرجها في أعينهم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي: أتباعه في الفساد والإفساد {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: للسعادة في الدارين.

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [20].
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} أي: في أهل الذلة، لأن الغلبة لله ولرسوله، كما قال:

.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [21].
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي: حزبَ الشيطان المحادّين {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: قويّ على إهلاك من حادّه ورسله، عزيز فلا يغلب في قضاءه.

.تفسير الآية رقم (22):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [22].
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: شاقهما وخالف أمرهما. أي: لا تجد قوماً جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وبين موادّة أعداء الله ورسوله. والمراد بنفي الوجدان نفي الموادّة، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه، والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله {وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ} أي: آباء الموادّين والضمير في {كَانُوا} لمن حاد الله ورسوله. والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد فيما قبله، باعتبار لفظهما.
{أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي: فإن قضية الإيمان هجر المحادين {أُوْلَئِكَ} إشارة إلى الذين لا يوادّونهم {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} أي: أثبته فيها {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي: بنور وعلم ولطف حيَّت به قلوبهم في الدنيا. وأشار إلى ما لهم في الآخرة، بقوله: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الناجحون والفائزون بسعادة الدارين.
تنبيهات:
الأول: من أشباه هذه الآية قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] الآية. وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
الثاني: قال ابن كثير: قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية {لَا تَجِدُ قَوْماً} إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر. وفي أبي بكر الصديق همّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير، وفي عمر قتل قريباً له من عشيرته يومئذ أيضاً، وفي حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث، قتلوا عبة وشيبة والوليد بن عتيبة يومئذ. انتهى.
وقد بينا مراراً، أن المراد بسبب النزول في مثل ذلك، صدق الآية على هؤلاء، وما أتوا به من التصلب في دين الله، في مقابلة المفسدين، ولو كانوا من أقرب الأقربين.
قال ابن كثير: ومن هذه القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم. وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله! هل تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأقتله، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن فلاناً من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين.
الثالث: قال ابن كثير: في قوله تعالى {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى، عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
الرابع: يفهم من قوله تعالى: {حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله في آية أخرى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1]، أن المراد بهم المحاربون لله ولرسوله، الصادّون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء. وهم الذين أخبر عنهم قبلُ بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. فتشمل الآية المشركين وأهل الكتاب المحاربين والمحادّين لنا، أي: الذين على حدّ منا، ومجانبة لشؤوننا، تحقيقاً لمخالفتنا، وترصداً للإيقاع بنا. وأما أهل الذمة الذين بين أظهرنا، ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا، واستكان لأحكامنا وقضائنا، فأولئك لا تشملهم الآية؛ لأنهم ليسوا بمحادّين لنا بالمعنى الذي ذكرناه، ولذا كان لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وجاز التزوج منهم ومشاركتهم، والاتجار معهم، وعيادة مرضاهم. فقد «عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً، وعرض عليه الإسلام فأسلم» كما رواه البخاري.
وعلى الإمام حفظهم والمنع من أذاهم، واستنقاذ أسراهم، لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام، وتأبد عهدهم، فلزمه ذلك، كما لزم المسلمين، كما في الإقناع وشرحه.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم بكثير من الرخص المشروعة: ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يجيب من دعاه، فيأكل طعامه»، و«أضافه يهوديّ بخبز وشعير وإهالة سنخة». وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب. وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مر بهم مِنْ المسلمين وقال: أطعموهم مما تأكلون. وقد أحل الله عز وجل ذلك في كتابه. ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا في الكنيسة، فكره دخولها، وقال لعليّ رضي الله عنه: اذهب بالناس. فذهب عليٌ بالمسلمين، فدخلوا، وجعل عليّ رضي الله عنه ينظر إلى الصورة. وقال: ما على أمير المؤمنين، لو دخل وأكل! انتهى.
والأصل في هذا قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8- 9]، قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في إيثار الحق: عن الإمام المهديّ محمد بن مطهر عليه السلام، أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي أن تحب الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، لا لسبب آخر، من جلب نفع أو دفع ضرر، أو خصلة خير فيه. وسيأتي في أول سورة الممتحنة زيادة على هذا إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.